
الدوامة اليومية
نستيقظ كل صباح على صوت المنبّه الرتيب، لتبدأ دوامة يوم يشبه سابقه. يغرقنا سيل الإشعارات والمهام العاجلة قبل أن نلمس الأرض بقدمينا، ثم نُساق إلى سباق لا نهاية له.
في هذا الركض، تتحول القهوة إلى وقود عابر: كوب ورقي نلتقطه على عجل ليمدّنا بطاقة مؤقتة، قبل أن نعود للدوران في الدوامة نفسها.

اجتماعات متتالية، أخبار تتكرر، ونهاية يوم تتركنا أكثر إنهاكًا مما بدأنا به. هنا، تصبح القهوة مجرد أداة في مصنع الإنتاجية الذي لا ينام. لا وقت للاستراحة ولا لحظة لالتقاط الأنفاس.
«الإنسان الذي يعيش بلا تأمل، يعيش حياة لا تستحق أن تُعاش.» – سقراط

لحظة التحول
لكن القصة تتغير في لحظة غير متوقعة. تذكرتُ يومًا هذا العام في مقهى لطيف وهادئ بالرياض.
كانت رائحة البُّن المحمّص قوية على نحوٍ مُلفت، حتى أنني استطعت أن أشمها رغم فقداني حاسة الشم لسنوات. رائحة تفوح كدعوة للعودة إلى الذات، كأنها تُنَاديني من أعماقِ الغياب.
لم تكن تلك مجرد تجربة عابرة، بل لحظة تحوّل: عودة للحواس، للألوان، للنكهات، وللسكون الذي ملأ المكان. الهواتف بعيدة، والضجيج في الخارج فقط، وفي تلك اللحظة وجدتني وجهاً لوجه مع صوتي الداخلي الذي يضيع وسط المهام اليومية.
«الحواس نوافذ الروح، وما لا يوقظها يميت الداخل.» – شوبنهاور

رحلة مع الذات
نظرتُ إلى فنجان القهوة أمامي؛ سواده العميق عكس حياتي المثقلة. شعرتُ بدفء الكوب بين يدي، وراقبتُ البخار يتصاعد في رقصة بطيئة.
رفعتُ الكوب بهدوء، وأخذتُ أول رشفة… فاكتشفتُ أن ما بين المرارة والدفء مساحة كاملة للتأمل. لم تعد القهوة عادة آلية، بل طقسًا يعيد صياغة علاقتي بالوجود.
«ليس المهم أن نصل إلى مكان ما، بل أن نصبح أكثر وعيًا في الطريق.» – كانط

إعادة اكتشاف الجمال
ندرك أن الخطأ لم يكن في الروتين ذاته، بل في انشغالنا الدائم الذي يُعمي عيوننا عن الجماليات الدقيقة:
خيوط الشمس الذهبية وهي تتسلل عبر الستائر، وصوت القهوة وهي تُسكب في الفنجان، وزحام الرياض الذي يختلط بجمال مبانيها الجديدة المتلألئة، ورائحة البن التي توقظ الحواس.
هذه التفاصيل البسيطة هي جوهر المعنى الحقيقي للوجود.
«الجمال ليس شيئًا نراه، بل طريقة ننظر بها.» – أفلاطون

فلسفة الحضور
القهوة ليست مجرد مشروب؛ إنها جسر يربطنا بأنفسنا، ونافذة على حياة أكثر وعيًا.
هي تذكير يومي بالحاجة إلى الاستراحة، لنعي أن أروع لحظات الحياة لا تولد في الركض، بل في الوقوف الهادئ لنشهدها.
في عالم يدفعنا دومًا نحو المستقبل، تُعلّمنا القهوة قيمة “الآن”. الحياة الحقيقية تُعاش في الحاضر، والسعادة ليست وجهة نصلها، بل اختيار نعيشه يومًا بعد يوم.
«الحاضر هو كل ما نملك، والمستقبل مجرد وهم يتأجل.» – إيكهارت تولِّه

الدعوة الأخيرة
في المرة القادمة التي تحتسي فيها قهوتك، لا تجعلها مجرد وقود ليومك.
اجعلها طقسًا مقدسًا، لحظة صدق مع النفس، وفرصة لتتذكر أن الحياة لا تُبنى على العجلة.
احتسِ قهوتك بحب، واحتفِ بلحظتك هذه. دع كل رشفة تذكرك بأن الجمال يختبئ في التفاصيل اليومية، وأن السكينة تكمن في القدرة على الغوص في “الآن”.

«التحول الحقيقي لا يولده حدث عظيم، بل وعيٌ بتفاصيل صغيرة.. حتى كوب قهوة قد يكون أكثر من استهلاك عابر.» – أحمد آنِواي
خِتام المقال ✍️
تقهو… هل حقًا نحن نتقهوى؟

Leave a comment