
سيغموند فرويد فتح بابًا جديدًا في فهم النفس البشرية حين كتب علم النفس المرضي للحياة اليومية. لم يعد النسيان أو زلات اللسان أو حتى فقدان الأشياء مجرد صدفة أو ضعف ذاكرة، بل تحوّلت عنده إلى إشارات من اللاوعي، تعكس رغبات مكبوتة وصراعات داخلية لا يسمح لها الوعي بالظهور. بهذه الرؤية، أصبحت تفاصيل الحياة اليومية مشبعة بالمعاني الخفية، وكأن كل كلمة أو فعل يحمل وراءه ما هو أعمق من الظاهر. وما بساطتنا سوى شماعة تقال، فكل ما يخرج منا قد يكون انعكاسًا لهالة داخلية مظلمة.
ومع ذلك، فإن فرويد – رغم خلفيته الطبية كطبيب أعصاب – لم يمنح البعد البيولوجي وزنه. في زمنه لم تكن هناك وسائل مثل الرنين المغناطيسي أو المعرفة المتقدمة بوظائف الدماغ، لذا مال إلى تفسير الأعراض النفسية بالكبت واللاوعي متجاهلًا الجانب العضوي. لم يكن هذا عن إنكار للبيولوجيا بقدر ما كان انعكاسًا لحدود العلم في عصره. وقد ينظر إلى ذلك كمحاولة لفهم ما عجز واقعه عن تفسيره؛ فما لا يجد له العقل تفسيرًا، قد يفسره بأي شيء حتى وإن كان منحازًا أو أقرب إلى الخرافة. ومع ذلك، تبقى هذه المحاولة جهدًا يُحسب لفرويد في سعيه للفهم.
اليوم، ومع تطور علم الأعصاب، أصبحنا نعرف أن النسيان والزلات وضعف التركيز قد تكون في أحيان كثيرة مؤشرات على اضطرابات عصبية أو نمائية مثل فرط الحركة وتشتت الانتباه أو الخرف أو حتى اضطرابات النوم. الدراسات أثبتت أن هذه الأخطاء ترتبط أحيانًا مباشرة بخلل في الذاكرة العاملة أو نقص في الناقلات العصبية. ومع ذلك، يبقى صحيحًا أن بعض هذه الأخطاء تحمل أيضًا بعدًا نفسيًا خفيًا يكشف ما يشغلنا أو ما نحاول إخفاءه.
ولو عاش فرويد زمننا وشاهد صور الدماغ عبر الـرنين المغنطيسي، ربما أعاد صياغة أفكاره ليقول إن الخلل البيولوجي موجود فعلاً، لكن اللاوعي يظل حاضرًا في طريقة تمظهره. عندها سيكون التفسير أكثر تكاملاً: الدماغ يفسر الجانب العضوي، واللاوعي يوضح كيف يعيش الإنسان هذا الخلل ويعبر عنه.

Dr. Raymond Damadian’s ‘Indomitable’ – a full-body MRI scanner and the first of its kind
خذ مثال الخرف: من منظور فرويدي صارم يمكن أن يُفهم بوصفه رفضًا لاواعيًا للواقع، بينما الطب الحديث يراه ضمورًا دماغيًا عضويًا. والحقيقة أن المريض يعاني المرض البيولوجي بكل قسوته، لكنه في الوقت نفسه يطور آليات دفاعية نفسية مثل الإنكار أو خلق قصص بديلة. هنا يتضح أن الحقيقة ليست في أحد الجانبين وحده، بل في التداخل بين البيولوجي والنفسي.
الإنسان لا يمكن اختزاله في الدماغ وحده ولا في اللاوعي فقط. فرويد كان محقًا في لفت الانتباه إلى أن حياتنا اليومية ليست بريئة من الصراعات الداخلية، لكن العلم الحديث أضاف بعدًا لا يمكن تجاهله وهو البعد العصبي والعضوي. النتيجة أن الإنسان أكثر تعقيدًا مما تخيل فرويد أو ما يفسره الطب وحده، وزلاتنا اليومية هي انعكاس لتداخل ما يخفيه اللاوعي وما يعتريه الجسد.
وربما يبقى السؤال مفتوحًا: هل أخطاؤنا اليومية تكشف ما بداخلنا فعلًا، أم أنها مجرد نسيان عابر؟

“مو كل خطأ هو رسالة من اللاوعي… وأيضًا مو كل خطأ مجرد خلل دماغي.”
— أحمد آنوي
Leave a comment